المدير العام مدير المنتدى
عدد المساهمات : 251 نقاط : 769
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 26/08/2010 الموقع : في قلب المنتدى المزاج : رايق
| موضوع: صوب الوطن الجمعة أغسطس 27, 2010 7:28 am | |
| من المجموعة القصصية " يقين "
صوب الوطن !
خيول ملونة تهاجم ذاكرته وتهزّها بعنف ، صهيل حارق يجتاح أنفاسه فيشهق بها ، تجحظ عيناه ! يلتفت إلى درة الصامتة بذهول مرعب .. يمد يده الضعيفة إليها ، فتلتقطها بارتعاش يحسه بشفتيها وهي تطبع على باطن كفه قبلة نزّت على جلده الخشن دمعا أحرقه ! ·درة ! تبلع ريقها بصعوبة وهي تمسح عينيها بظاهر كفيها محاولة أن تجيبه لكنه يكمل بصوت مخنوق : ·أشعر بأنفاسه يا درة تجتاحني وتسكنني .. عندما أردته فرّ بعيدا ، وعندما كبّلني الخوف اقترب بظله ليسكنني البرد ، ويلتهمني النسيان .. تطلّعت حولها بخوف : ·لا يوجد سواي في الغرفة ! ·إنه بجوار أنفاسنا ! حتى لو كنت وحدك يا درّة سيكون معك ! تنتظرينه وينتظرك ! ·عن أي شيء تتحدث ؟! ·الموت ! ارتعشت شفتاها حتى ازرقت ، وصار وجهها قاتما ككلماته لكنه لم يتوقف : ·مسكينة يا درة ! لم تشاهدي البحر ، لم تتعطري برذاذ الحكايات في ظلال البرتقال ، ولم تهمس العصافير في أذنيك ، لم تشاهدي الأرض وهي تتشقق عن الحياة في يافا ، مسكينة يا درة ! ولدت كلمة غريبة في دفتر لم يحمل أحرفك ، فبقيت حبيسة الغربة واللجوء .. هناك ، على الشاطيء الصاخب بأغنيات الصغار ، هناك ، في شوارع يافا الموشّحة بالمطر دفتر ستجدين فيه مكانا لأحرفك ، يخلقنا الله ولكل منا مكان ، وهناك يا درة ! حيث البيت والصخب والحب وأحلام أبي المتيّم بالبحر ، وأسماك أمي التي يسعدها أن نأكل ، هناك مكاننا ! ·غدا نعود ! ·خذلتني الدنيا ! خذلتني أحلامي ، خذلني التوقّع وأصحاب الكلمات الكبيرة ، خذلني الصمت والكلام وخذلني العرب ! وسيخذلني الموت يا درة .. سيخذلني . يغمض داوود عينيه ليرى الماضي ، فيهتز ّوجهه ببكاء مكتوم .. يتفيأ بظلال الذكريات الحميمة ، فيحرقه القهر حين يطل من حواشي الأماكن التي لفظته كالكلمة القبيحة ، وأبقته وحيدا ، منتظرا ، وعاجزا ! طاعون اسمه الخوف ! يهود تحملهم الكراهية ! ورغبة مجنونة بقتل أي شئ يتحرك ، جنود يحملون سلاحا وعتادا ولغة مفرداتها الدم ! والوجع .. فلسطيني الملامح ، خوفه نار تحرق بارتعاشها القدرة على الصمود ! داوود ينظر حوله بعينين تائهتين ! ذعر يحرّك الناس بفوضى تربكهم ، صراخ ! وكلمات لم يفهم داوود منها شيئا لكن يدا هزّته بعنف : ·ماذا تنتظر يا داوود ؟ هؤلاء لديهم السلاح ، الموت الذي ستواجهه بصدر مكشوف .. بناتك يا داوود ! سيهتكون عرضك أمام عينيك فهيا ! ·إلى أين ؟ ·إلى الجحيم ! المهم أن نفر بأرواحنا وأعراضنا ، نحصل على السلاح ثم نعود .. ومعنا العرب ! شوك ينغرس في الخاصرة ! وذل يستقر بأعلى الحلق وينشر سمّه ببطء ، الخطوات خرائط للوطن ، وأنين الصغار المعذّبين بحمى الرحيل يفتك بصبر الأمهات ! وينتزع الدمع من مقل جافة . الموت والبحر ! وطائرات تحلّق مهددة فوق الرؤوس ، داوود يبكي ذلّه ، تثور في عروقه أشياء ظنّها ملامحه ! لكنه يخمدها بتنهيدة تنتشر على وجوه بناته الفزعات كبقايا زجاج مكسور .. زوجته تحتضن طفلها بكل الخوف وفزع المصير ، سنين قاسية من الشوق انتظرت ليكتمل وجودها بطفل ذكر يحمل اسم والده ، وتباشير الأمن لأم الإناث الصابرة . زوجته تتحاشى النظر إلى عينيه كي لا تبكي ! كم مفجع أن تراه يفرّ مثلها ! وكم يقسم الظهر الخوف على البنات! على الشاطيء المفجوع بخوف الراحلين المحمّلين بأمل الرجوع تهافت الناس على القوارب ! يتساقطون خلف بعضهم بفوضى مرعبة ، أصوات تنتشر من كل مكان تهدد بالغرق من الحمولة الزائدة لكن أحدا لا يسمع ! داوود يقفز إلى أحد تلك القوارب ! زوجته تدفع بطفلها إليه ، فتأتيها صرخة مفجوعة من وراء كتفيها ، تخيفها ! تتلفّت حولها بريق جاف ، ثم تبكي وهي تعدّ بناتها ( روحيّة ، عائشة ، سارة ، رابعة . ) داوود أيضا كان يبكي وهو يدفع بطفله إلى امرأة تمسّكت بثوبه وهو يحاول أن يسحب إحدى بناته إلى القارب . القارب المتخم بالأنفاس يكاد يخذل حمولته وينقلب بأمل السلامة ، صاح داوود : ( لا يمكننا الإبحار هكذا ، فتعالت الأصوات وقد نفذ الصبر بشظايا القذائف وأزيز الطائرات ، لملم بناته قبل أن تصعد زوجته ونزل محملا بالخيبة ! تلك المرأة تناديه من داخل القارب وهي ترفع ولده بين يديها بينما يبتعد القارب عن الشاطيء المسكون بصراخ الأم التي تشبّت بالماء ولفظت آخر أنفاسها خلفه .. داوود لم يستطع أن يسترجع ولده ! ولم يفلح بإنقاذ زوجته التي تمسكت بظل طفلها على الماء .. أمسك ببناته ورعب يرسم وجوههن بطريقة لم تغادر ذاكرته ، وقرر أن يجد لنفسه طريقا آخر .. حزن داوود وبناته الأربع صخور تتفتّت على أسنة الصمت وتحرقه بلهب الرجولة المهانة ! قد تحمل الأرض الوعرة بعض الأمن ، قد تصل به إلى حيث يمكنه أن يبكي حتى نفاذ الدمع ، وحتى تبخّر الذاكرة . من اتساع البحر إلى أفق الخيمة الضيّق ! ومن هواء رطب لرياح خشنة الملمس ، من أرض تعرفك لأرض تحدّق مستغربة في خطواتك ، ومن دفء البيت لبرد الملجأ وعري الغربة المحمومة بالعجز ! ابنته روحية أدهشته بصمودها ، أحس وكأنها كبرت عشرات الأعوام على الطريق بين البحر والأرض الوعرة ! قال لها وهو يحاول أن يصدّق نفسه : ·غدا نعود . ·من لم يملك أن يبقى ، هل يملك أن يعود ؟! طأطأ برأسه إلى الأرض بتخوّف ، تنهّد بعمق ، ثم التفت إليها بأنفاس مضطربة : ( حقا ! أهو اللجوء أم النفي ؟! ) . دمعة ساخنة تراقصت في عينيها وهي تحدّق في وجهه ، لم تقل شيئا لكن نظراتها حملت إليه شيئا أبكاه ! الخيام كابوس يصفه الآخرون ، ولا تهمّهم تفاصيله ! أناس هدّهم الجوع فصار قمرهم رغيفا تمتدّ إليه أيدي الصغار ! الخيام حشرات جلدك مسكنها ومطعمها ، وبردك خنجر في خاصرة العمر ولا خلاص ! ابنته عائشة تشدّ على بطنها بألم ، تتحرّك حول نفسها وهي تبكي ، بينما يحثّ السير وهو يسحب يدها بضيق : ·تقدّمي إلى الداخل ، يوجد عدد من المراحيض . ·إنها ممتلئة بالنساء ! ·افعلي أي شيء ! عجز واستسلام يغطي وجه عائشة وهي تنظر إلى والدها بعينين جاحظتين بينما يرتخي أسفل جسدها دفعة واحدة ، لتمتلأ ملابسها بالقذارة ، وروحها بالخجل ! داوود يحدّق بارتعاش وجهها ، يتنهّد بوجع مقهور ، ثم يحضن رأسها بكفّيه ، ولا يدري ماذا يفعل ! الخيام ظجيج اسمه الحمى ! جوع وتلوّث يغطي وجوه الأشياء ، لتحمل للناس سما يستقر في أجسادهم ويفنيها ، ويبقي على شفاه الأحياء ظلال الظمأ ! وروحيّة تضعفها الحمى ! ذلك الماء الملوث لماذا يحمل سمّه إليها ؟! داوود يهرب من عينيها المحمرّتين ، ويبكيه أنها تقدر أن تبتسم .. ( الرحيل موت ! والخيام موت ! ليتنا نعود يا أبي ! ) وانتشر الصمت ! ولم تقل روحيّة شيئا بعدها … الحزن ملامح داوود ! والقلق أنفاس بناته الصغيرات ، وذكريات ما زالت تنزّ في صمته شوقا وخوفا ! ها هي روحية ترحل عن صخب الحياة القاسية قبل أن تنعم بدفء الرمال الهاربة من الموج ، ها هي تنسحب وحيدة لعالم يخاف أن يفكر فيه ، ويحطمه العجز حين يحاول تخيّله ! على أية حال ، يمكنه أن يستعيد ملامح الوطن بسهولة ، ويمكنه لملمة ذكرياته المضطربة ، لتشكّل مشهدا حقيقيا للحياة .. الأيام تمرّ سريعا رغم احتضار الفصول وحيدة كل عام ، وتجرّ السنين بعضها برغبة حمقاء في احتكار العمر ، ليكبر الحلم بالعودة .. حيث البحر ! وتمتد جذور داوود في أرض اللجوء لكنها رخوة ! عيون الراحلين تناديه من بعيد ، تحدّثه بكثير من الحسرة عن رطوبة الهواء التي تملأ الأنف برائحة السمك ، عن الشاطئ والخوف ، عن الرحيل والندم ، وكانت تبكي وتبكي ، ليشتدّ إحساس داوود بالنفي ! المنفى جنة ليست لك ! ووطن تعيش فيه لكنه لا يسكنك ! المنفى جوع ووحشة ووعد وانتظار لا ينتهي إلا بانتهائك أو .. بعودتك ! كثيرا ما سأل نفسه إن كانت الحكمة تناقض الشجاعة حين يتعيّن على المرء أن يغامر بأنفاسه ! وكثيرا ما كانت تخونه الإجابة حين تهزّه الهوّة السحيقة بين ما يفكّر فيه وبين ما يفعله . داوود صار بطاقة تحمل لقبا ورقما يمنحه الطحين ! والخيمة تصبح وحدة سكنيّة طريّة الجدران ، سقفها المعدني يبوح بأسرارها وهو يطل على الممر الضيّق الذي يفصل بين تلك الوحدات السكنية . ووسط الممر الضّيق قناة تحمل القذارة وتتجوّل بها بين تلك الوحدات كثعبان كريه يلفّ المخيّم بذلّ الانتظار . تلك الوحدة هي كل ما لدى داوود من أخبار ، وهي فراش الموت وعذاب الذكريات ! سنوات مريرة من الانتظار على أبواب الصبر باسم الصمود في الملجأ ! الأهل فرّقهم التشرّد ، ولم يلتق إلا ببعضهم ! يسمع عنهم من وقت لآخر . تفرّقوا في أرض العرب ، وتجمّعوا في مخيّلة داوود اللاجئ ! يفتح عينيه بتثاقل ، فيتدفق دمعه دون أن يقاومه ، يمد يده لدرّة من جديد : ·بقدر ما يخيفني الموت بقدر ما يقرّبني من الحقيقة ! انهارت عينا درّة بارتعاش خائف : ·أنا لا أريدك أن تموت ! من أجلي يا جدي ، لا تمت ! ·عندما توفّيت أمي لم أصدّق أنها لن تمنحني ركبتها ليهدأ في رأسي هدير البحر ، لم أفهم معنى الرحيل دون كلمة تعد بلقاء آخر .. كان حزني فجّا ! عرفت ذلك وأنا أتحسس جسد زوجتي البارد وسط حريق الرحيل ، لأكتشف أننا دائما يمكننا أن نكون أشد حزنا من قبل ! طرق على الباب المعدني تستقبله درّة بكل اللهفة بينما لا يعيره داوود أي اهتمام ! تدفّق من باب الغرفة الرجال حتى اتخمت بهم الغرفة .. اقترب أحدهم ضاحكا : ·لا تقل أنك ستموت يا داوود ! التفت إليه : ·كل مذبحة ألقت بي بعيدا عن سكاكينها كانت تتركني لعذاب هذا الانتظار ، لأموت هنا وحيدا لاجئا وعاريا من الفرح ! ·كلنا حولك يا رجل ! ·كلكم مثلي تقتلكم الوحدة والقهر ! رفع رأسه بصعوبة ، ثم قال ووجهه يرتعش بالبكاء : ·لماذا رحلنا يا أبا الوليد ؟! ·لم يكن خيارنا . ·هل لجأنا إلى هذه الأرض لتمنحنا الخبز المملّح بذكرياتنا عن رجولتنا المقهورة ؟! ·لا تفكّر في الماضي . ·الماضي هو الوطن ! ·الوطن نحن ! ·ولكننا نموت ؟ ·نموت ويولد أبناؤنا . ·يولدون في بيوت كالقبور ، خبزهم مرّ ، وملامحهم مهجورة ! ·في هذه البيوت يولد فيهم الوطن ! داوود يشعر بالاختناق ! ضيق المخيّم يطبق على أنفاسه ، وتضايقه أصوات الصغار وهم يتعاركون تحت نافذته ، شوارع المنفى تلف حول عنقه حبالا من قهر ! يحن لأحبائه الذين فرّقهم التشرّد وبعثرهم على صفحات الحياة المبهمة ، وشوق عاصف يلقي به علىشواطئ الانتظار ! بينما تطل روحيّة من برودة الجدران ، تحمل على كفيها دما فلسطيني الرحيق ! سقف الغرفة يغرق في البحر العنيد ، زوجته تمد يدها لعلّه يسحبها ! وطفله يناديه من فزع القارب الهارب .. يمد داوود يده إليهم ، يلاحقهم بعينين جاحظتين ! بينما تسيل دموع درة الصامتة وهي تراقبه يموت وهو يمدّ يده صوب الوطن ! | |
|